العجـوز يـبدأ
بقلم : خولة القزويني
يعرف أنه قد انتهى .
يعرف أنه يرحل عن الأيام خائباً دون أن يزرع على ضفاف حياته قارب نجاة قد ينقذه في لحظة يأس ، ظل هذه الليلة راقداً على فراشه يبحلق ساهماً في سقف الغرفة ، الظلمة الداكنة أحالت دون رؤية اللوحة الزيتية المعلقة على الحائط لكن لمعة إطارها الذهبي استدله على بعض ملامحها وبصيص نور آت من فتحة الباب الموارب ، لا يدري لما كانت هذه الصورة تشده أكثر من الأحياء ، فيها شئ لا يستطيع التعبير عنه ، إنما تستفز أحاسيسه المخبوءة ، الرجل العجوز يحمل الفأس على كتفه يسير في غابة موحشة، بدا مبتهجاً ، في عينيه اقتحام غريب ، قامته شامخة مفعمة بالرجولة ، يتأمله بإنشداه ، يحاوره في صمت حتى صار له صديقاً. هذا الليل كان كئيباً فبالرغم من قرص المنوم لم يغمض له جفن .. الأفكار المجنونة تعبث في وجدانه ، لا تستريح ، تؤرقه ، تفقدته الممرضة لأكثر من مرة ، تدفعه إلى النوم أعرض متبرماً ، زهق الرقاد ، هل ستنتهي حياته بعد مرارة السنين إلى كومة في اللحم الذائب هرميه على الفراش.
- خذ هذا القرص ، أعرف أنه سير يحك هذه المرة !
دفع يدها غاضباً.
- دعيني أرجوك ، أنا أحتاج الغلوة مع نفسي..
- لم يبق من الفجر سوى ساعات قليلة.
تنهـد
- ومن حياتي سوى أيام قليلة ".
أشفقت عليه
- ستكون بحال أفضل .. لا تقلق.
استراح في خلوته ، تغمره البشاشة والسكون لأنه عاد إلى صديقه العجوز ، إنه بالرغم من هذا الصمت يسمع دوياً يلاحقه في اليقظة والنوم منذ فترة أشتد عنده هذا العزم، الحياة رائعة حتى في لحظاتها القصيرة .. تركتها تتسرب من مسامات جلدي دون نفع أو فائدة .. خطأنا هو أننا لا نفكر إلا باتجاه العتمه ، العجوز سرد له حكايته سراً حينما انطفأ النور وغفا الكون ، شعر بأنفاسه اللاهثة تخترق حدود الجسد المادي .. تحرر من أسر الزمن المحدود ليدخل في ثوب هلامي قابل للتمدد، عيناه الفائرتان تكتنفها رغبة عارمة في العطاء ، رغم الفاصل القصير بينه وبين القبر ، يعبر محيط العالم بأحلام بركانية وأنت جالس هنا عاجز عن الحراك عمرك الثلاثيني يندثر تحت الملاءات البيضاء، أمسكت عن البوح منذ سنوات ، تذكر كيف تبددت أيامك بعبوس وقنوط ، نسمة الهواء العليلة تهشها كالذباب عندما كانت ترفل في مداك. فشلت في الجامعة ثم هجرتك المحبوبة ، تراكم فشلك كالعربيد يأكل صباك وينحت الأسى خطوطاً على وجهك ، نحل جسدك وذبل ليفترسك السرطان في معدتك ، حولك الآن خراطيم وأنابيب وأكياس غذاء.. تنقل لك الحياة المصنعة برائحة كريهة .. دواءك لسعة عقرب موجهة مع ثورة شبابك الساكنة ، العجوز يشتعل بالحياة ، يفيض وجهه عافية ، وذراعه المفتولة تفوق الفأس صلابة رغم المشيب والوهن الكامن في قاموس العمر تحدى وانصاع للأنا المقدامة ، الطريق الذي يسير فيه شائك تفترشه الأعشاش والأحراش ، تسكنه الأفاعي ، يستفز الغموض مجاهيل روحه ، الخوف والرهبة منزوعان من كيانه ، إنه يعد بداية جديدة لصفحة مشرقة ، يخيل للشاب المنتهي أن العجوز يبدأ سمع صرير الباب يأتيه مزعجاً ، الممرضة بدت واضحة الملامح فالفجر يستريح الآن ويترك أنفاسه تفترش الفضاء بهالة من نور ، بدت جميلة المحيا ، هي بالأمس كانت بغيضة وجافة ، ربما الضوء الوسنان آت من النافذة روض قساوتها مندهشة لمرآة السعيد.
" تبدو هاشاً باشا ".
- لم أكن أملك فأساً
تجاهلت الأمر .. ظنته هذيان مريض ..
وضعت شريط الضغط على ذراعه.
- " بعد ساعة سيزورك الطبيب ".
- أرجوك افتحي النافذة ، سئمت العتمة ، دعيني أسمع تغريد العصافير ووشوشة العنادل، وعبق الزهور، لم أعرف أن لي روح إلا اليوم ، لم أشهد تحول إلا بالأمس.
- سآخذك إلى حديقة المستشفى ما رأيك ؟.
- ابعثي لي فنجان قهوة ، ألست نزيل فندق حتماً سأمضى إجازتي وأعود إلى الحياة ، لن تكون نهايتي في قبر مظلم
دبت الحرارة في عروقه اليابسه فأضاءت وجهه بنور عذب ، أذهل الممرضة ، مندهشة هذا الانقلاب أربك مقاييس الطبيب ، مفاوضات سرية تمت بينه وبين العجوز لتنتهي بهذه الحيوية المتدفقة ، أيام طويلة اختزلت تجربة الاثنين لتسفر عن ولادة كائن جديد مغرم بالحياة مفعم بالأمل ، تمشي في ردهات المستشفى يتعرف على المرضى بالبائسين الذين يقف كل واحد منهم على شفير الموت ، ينتفض من داخله إنسان مكبل بالأصفاد ، قمع صوته منذ سنين الطفولة أربك ثقته بنفسه ، بعد معاناة ومخاض مبكي يرتجف من عودة شاقة كلفته أعصاب ممزقة ، إنه مدفون داخل ذاته المهلهلة .. سيطلق لهذه الكنوز العنان ، سيحفر في هذه البئر السحيقة لتمتد أصابعه حتى نهاية القعر ، هناك جذور طيبة ، خصبة تحتاج إلى رواء ، ستشم الهواء ستلفح أغصانها الذابلة حرقة الشمس، سأكون جديداً رغم الموت ، "الأمل" يتبرعم مع صفحات الكتب التي يقرأها كل ليلة .. يكتب ، يدون ، ما هذا ؟ فيضان ؟! سيل كان مكبوتاً في داخله ، بئر معطلة هجرها ملاكها ؟ .. كنوز سليمان منسيه في أعماقه ؟
" الطبيب ينتظر الشهقة الأخيرة "
ولكن الشهقة الأخيرة تقهر والأيام مقصيه عن النهاية.
- " إنه يتعافى بشكل مذهل".
الطبيب يهمس في أذن الممرضة:
- " نعم إنها معجزة ".
اتكأ على حافة السرير فارداً جذعه ، وسمته الهادئ يشي بباطنه المسالم.
- " متى أعود إلى الحياة يا دكتور؟
- " قريباً .. قريباً جداً !
- هذه المرة أعود ومعي فأس.
خرج الطبيب مسروراً أدرك بفطنته ذلك السحر المدهش الذي عجل بشفائه.
نهض من سريره ليقترب من الصورة محدقاً بالعجوز ثم انكفأ على وجنتيه يقبله قائلاً :
" صباح الخير يا صاحبي" !
يقول "جورج برنارد شو" : " إن السر وراء كونك يائساً أو قلقاً هو أنك تقضي وقت فراغك متفكراً ومهموماً بشأن ما إذا كنت سعيداً أم بائساً عليك أن تكون نشيطاً وأن تنشغل بأي شئ".
منقول